قد يضفي غلبة عنصر المأساة على واقعة الطف الدامية، وما تخللها من مشاهد القتل المروعة، وما تبعها من أحداث مفجعة، الى توجيه وتركيز الانظار والمشاعر والعواطف وبشكل ضاغط، نحو الابتعاد عن الجوانب الأخرى من هذا الحدث العظيم. كالانجازات التي نجحت في تحقيقها والمشروع النهضوي الذي تبنته والخط الحركي بأسسه المعنوية والتعبوية الذي أوجدته في المجتمع من أجل بث روح التغيير والإصلاح وخاصة في مجال عطائها الإنساني.

ولأجل الاحاطة الشاملة والموضوعية لثورة الحسين (عليه السلام) ومعرفة نتائج الثورة وافرازاتها، وهل نجحت الثورة في كشف زيف الحكم الأموي وتفاقم روح النقمة والتمرد عليه في مختلف شرائح المجتمع، وقيام سلسلة من الثورات والحركات (العسكرية)، أم فشلت لأنها لم تحقق نصراً سياسياً آنياً يغير من واقع المجتمع الى واقع أفضل، إذ بقي المسلمون بعد الثورة كما كانوا قبلها: (قطيعاً يساق بالقوة الى حيث يراد له لا الى حيث يريد، وليساس بالتجويع والارهاب، ولقد ازداد أعداء هذه الثورة قوة على قوتهم، فلم تنل منهم شيئاً، وأما صانعوها فقد أكلتهم نارها، وشملت أعقابهم مئات من السنين، فحملت اليهم الموت، والذل، والتشريد، والحرمان).

فلابد ان نفهم ثورة الحسين بأسبابها ومقدماتها وأهدافها ونتائجها، وقد يخسر القائد المعركة ولكنه ينتصر في آخر الحرب.



قال الامام الحسين (عليه السلام) لابن الزبير حين طلب منه اعلان الثورة في مكة: (وأيم الله لو كنت في حجر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم، والله ليعتدن عليّ كما اعتدت اليهود في السبت).

وكان (عليه السلام) يقول: (والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرام المرأة).

وقد اجاب (عليه السلام) الفرزدق حين قال له: (قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية).

(صدقت، لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكل يوم ربنا في شأن.. ان نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وان حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته، والتقوى سريرته).

فالتاريخ يحدثنا، انه (عليه السلام) ما نزل منزلاً إلا ولقي من ينصحه بعدم الخروج الى العراق، ولكنه كان (عليه السلام) ينظر الى عظمة الهدف الذي يسير ومعه أهله وأصحابه من أجله، فلا يسمع إلا لصرخة الحق واستغاثة المظلومين وآهات المعذبين.

ان المجتمع الإسلامي إذ ذاك، كان بحاجة الى صدمة قوية توقظه من نومه وتخرجه من سباته والى هزة عنيفة تحيي ضميره وتلهب أحاسيسه ومشاعره وعواطفه، كان بحاجة الى مشهد دامٍ تراق به دماء زكية طاهرة تفجر طاقاته وتفعّل حركيته، انه بحاجة الى نموذج تتمثل به أعلى وأسمى مراتب التضحية ونكران الذات في سبيل المبادئ والمثل والقيم السامية.

لقد كانت قضية تخاذل مجتمع بأسره عن نصرة مسلم بن عقيل حين أوقع به ابن زياد، والمشاهد الأخرى المتكررة في حياة المجتمع الإسلامي آنذاك.

فالذين قالوا للحسين (عليه السلام): قلوب الناس معك وسيوفهم عليك صادقين في تفسير ذلك، المجتمع، فان الناس يريدون ان يغيروا من مأساوية ذلك الواقع المرير وحياة الذل والهوان والاستعباد، فكانت قلوبهم مع الحسين (عليه السلام) لما يتمتع بالأهلية الكاملة والصفات الفريدة للقيام بذلك العمل، ولكن حين علموا انه من غير الممكن الوصول الى تحقيق ذلك الهدف إلا ببذل التضحيات التي قد تصل الى ازهاق ارواحهم. خنعوا وتقهقروا وضعفوا.

فاستكانوا لحكم الطاغية المستبد وجعلوا سيوفهم في سبيل الحصول على الدينار والدرهم. (فحين استيقن ابن زياد ان الحسين ماضٍ فيما اعتزمه، جمع الناس في مسجد الكوفة وخطب بهم، ومدح يزيد وأباه، وذكر حسن سيرتهما، وجميل أثرهما، ووعد الناس بتوفير العطاء لهم، وزادهم في عطياتهم مائة مائة، وامرهم بالاستعداد والخروج لحرب الحسين.

وهذا ـ عموماً ـ هو الواقع الفكري والسياسي والحركي الذي عليه المجتمع الإسلامي، لذا فان حركة الإمام الحسين (عليه السلام) لابد منها لإعادة الإسلام الى حياة المجتمع الإسلامي، بالرغم من تيقن الحسين (عليه السلام) بان دمه ودم أهله وأصحابه يجب ان يراق على مذبح الحرية والحياة الكريمة. واستقامة دين جده المصطفى (صلى الله عليه وآله).



نتائج الثورة

ان فاجعة كربلاء كانت صرخة مدوية بلغت بصداها كل ضمير حي يتعطش للحياة الحرة كما ان صوتها الذي خرج من قلوب طيبة أحبت الناس واعطتهم كل ما تيسر لهم عطائه وبذلت في سبيل احقاق الحق ونصرة المظلومين كل ما تملك. ان هذا الصوت أقض الظالمين في مضاجعهم وهز عروش الطغاة والمستكبرين. فكان لابد لمثل هذه الحركة الثورية الدامية والزاخرة بالعديد من المواقف التضحوية النبيلة وما تمخضت عنها من مفاهيم وقيم استنهاضية سامية من ان تحدث حركة في المجتمع وتبث فيه نفساً تغييرياً، وعليه فهنالك جملة من التغييرات التي نتجت عن قيام ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) والتي تعد في عداد الانجازات العظيمة التي نجحت الثورة في تحقيقها:

1 ـ (تحطيم الاطار الديني المزيف الذي كان الأمويون واعوانهم يحيطون به سلطانهم، وفضح الروح اللادينية الجاهلية التي كانت توجه الحكم الأموي).

فقد أشاع الحزب الأموي انهم يحكمون الناس بتفويض إلهي، وانهم خلفاء رسول الله حقاً، هادفين من وراء ذلك الى ان يجعلوا من الثورة عليهم عملاً محظورا. وان ظلموا وجوعوا وشردوا المؤمنين، وان يجعلوا لأنفسهم بأسم الدين، الحق في قمع أي تمرد تقوم به جماعة من الناس وان كانت محقة في طلباتها.

وقد قاموا بتأمين (الغطاء) لذلك من خلال الاستعانة بطائفة كبيرة من الأحاديث المكذوبة على النبي (ص)، وقد وضعها ونسبها الى النبي، اولئك النفر من تجار الدين الذين كانوا يشكلون جهاز الدعاية عند معاوية بن ابي سفيان.

ومنذ ذلك اليوم، تحطم الاطار الديني (المزيف) الذي احاط به الحكام الظالمون حكمهم الفاسد، فلم تعد لهذا الحكم حرمة دينية في نفوس المجتمع.

2 ـ بث الشعور بالأثم في نفس كل فرد، وهذا الشعور الذي يتحول الى نقد ذاتي من الشخص لنفسه، يقوّم على ضوئه موقفه من الحياة والمجتمع.

لقد دفع الشعور بالإثم نتيجة للواقع الدامي الذي كانت عليه واقعة الطف، الكثير من الجماعات الإسلامية الى العمل للتكفير، وزادهم بغضاً للأمويين وحقداً عليهم، وكان التعبير الطبيعي للرغبة في التكفير عن الإحساس بالذنب والتقصير تجاه ابن رسول الله (ص) هو الثورة، وهكذا كان.

ويحدثنا التاريخ انه لما نودي بقتل الحسين (عليه السلام) في المدينة، وعلم الناس بذلك ضجت المدينة بأهلها، ومن الذين استيقظت ضمائرهم على جريمتهم الرهيبة رضي بن منقذ العبدي، إذ قال في أبيات وهو لسان حال الكثيرين:

لو شاء ربي ما شهدت قـتالهم *** ولاجعل النعمـاء عندي ابن جابر

لقد كان ذاك اليوم عاراً وسـبة *** تعيّره الأبنــــاء بعد المعاشــــــر

فياليت اني كنت من قبل قتــله *** ويوم حسين كنت في رمس قابر

3 ـ خلق مناقبية جديدة للإنسان العربي المسلم، وفتح عيني هذا الإنسان على عوامل مضيئة باهرة.

ان تاريخ الثورات التي قامت بها الشعوب، يؤكد لنا ان هذه الثورات هي في الحقيقة محطة انقلابية تغييرية هائلة، ولابد لها من ان ترسم صورة جديدة لواقع المجتمع والتنبؤ بمعالم جديدة للمستقبل. وخاصة إذا كان قائد الثورة بمستوى نموذجي (غير عادي) كالإمام الحسين (عليه السلام) وأيضاً ما امتازت به الثورة من اخلاق كريمة ومبادئ سمحة في اطار من القيم الإنسانية النبيلة.

لقد كانت أخلاق الحسين (عليه السلام) وآله وأصحابه هي الضربة الموجعة والقاضية للحكم الأموي. فبهذه القيم وتلك المبادئ انتصر الدم الحسيني الطاهر على السيف الأموي.

4 ـ بعث الروح النضالية في الإنسان المسلم من اجل ارساء المجتمع على قواعد جديدة، ومن أجل رد اعتباره الإنساني اليه.

لقد كانت ثورة الحسين (عليه السلام) ملهمة وعنفوانية واستنهاضية، وبكل تفاصيلها، بأقوالها وحركاتها وبمواقفها ومشاهدها بأسبابها وأهدافها بنتائجها وآثارها، بأبطالها وشخصياتها، شهدائها وأعداءها.

فثورة الحسين (عليه السلام) حطمت كل حاجز نفسي واجتماعي يقف في وجه الثورة، كما قضت او حددت على أقل تقدير تلك الآفات النفسية والاجتماعية التي كانت تحول بين الإنسان وبين أن يقاتل ويجاهد عن ذاته وعن انسانيته.

ولعل من أوضح الأمثلة على انبعاث الروح الجهادية والوثبة التضحوية من بعد ثورة الحسين (عليه السلام)، هو انه ومنذ شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) ومآل الحكم للأمويين خالصاً أي في سنة (40 للهجرة)، الى حين ثورة الحسين (أي في 60 للهجرة)، لم يقم في هذا المجتمع أي احتجاج (جدي) جماعي على ألوان الاضطهاد والتقتيل وسرقة أموال الأمة التي كان يقوم بها الأمويون واعوانهم.

عشرون عاماً مرت على هذا المجتمع، وهذه هي حالته، ولم تتغير إلا بعد ان اعلن الإمام الحسين (عليه السلام) ثورته، فاندلعت ثورة التوابين، الذين زاروا قبر الحسين (عليه السلام) مستقتلين، فقاتلوا جيوش الأمويين حتى أبيدوا جميعاً وقد اعتبر التوابون ان المسؤول الأول والأهم عن قتل الحسين (عليه السلام) هو النظام وليس الأشخاص.

وأيضاً كانت ثورة المدينة رد فعل آخر لمقتل الحسين (عليه السلام) والتي استهدفت تقويض سلطان الأمويين الظالم الجائر البعيد عن الدين. وعندما دخلت سنة ست وستين للهجرة، فثار المختار بن أبي عبيدة الثقفي بالعراق طالباً ثأر الحسين (عليه السلام) وفي سنة (77 للهجرة) ثار مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج بن يوسف، كما انه وفي سنة (81 للهجرة) ثار عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج. وفي سنة (121 للهجرة) تهيأ زيد بن علي بن الحسين للثورة في الكوفة، وثار في سنة (122 للهجرة) وخنقت الثورة في مهدها بسبب الجيش الأموي الذي كان مرابطاً في العراق، وكانت شعارات الثائرين مع زيد (يا أهل الكوفة، اخرجوا من الذل الى العز والى الدين والدنيا).

ان هذه الثورات والحركات ما هي الى نتاج ما بثته ثورة الحسين (عليه السلام) في عروق الناس من روح الثورة والتمرد على الظلم والظالمين، وقضائها على روح التواكل والخنوع والتسليم للحاكمين.

ان ثورة الحسين (عليه السلام) كما ان آثارها لم تنحصر في عصرها ومصرها، فان إلهامها لم يقتصر في ذلك. فثورة الحسين (عليه السلام) انطلقت من الإنسان وإلى الإنسان، لذا فان صداها يدوي ويدوي في كل زمان، فحيث ما وجد ظلم أو ظالم ستجد من يهب لمقارعته والقضاء عليه، وستجد ان الدم الحسيني هو محركه وملهمه، وهو الذي يرسم الطريق له.